تاريخ من الوفاء والتعاون.. العلاقات السعودية الموريتانية نموذجًا

تعد العلاقات بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الموريتانية من أعمق وأمتن العلاقات العربية البينية، إذ تتجاوز إطار المصالح السياسية والاقتصادية لتستند إلى روابط تاريخية ودينية وثقافية متجذرة، تعززت مع مرور الزمن وشهدت في العقود الأخيرة تطورا لافتا جعل منها نموذجا يحتذى في التعاون العربي-العربي.
من شنقيط إلى مكة: جذور روحية وميراث علمي مشترك
يعود تاريخ التواصل بين موريتانيا والسعودية إلى قرون مضت، حينما كانت القوافل العلمية والدينية تنطلق من شنقيط، حاملة معها العلماء والفقهاء في رحلات حج وتعلم، إلى الديار المقدسة في الحجاز، حيث مكة المكرمة والمدينة المنورة. وقد وثقت كتب الرحالة والمستشرقين وعلماء الشناقطة هذه الرحلات التي لم تكن مجرد أداء لفريضة، بل جسورا علمية وروحية، أثمرت عن تبادل علمي وحضاري كبير.
ومن أبرز من سجل رحلته إلى الحجاز العلامة الشنقيطي الشيخ محمد محمود بن التلاميد الشنقيطي، الذي أقام فترة في المدينة المنورة ودرس فيها، وكان له دور في إثراء الحركة العلمية في الحجاز. كما يذكر من بينهم الشيخ سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي، الذي رحل للحج والتقى بعلماء الحرمين وتبادل معهم الفتاوى والمدونات.
وقد كان الحج بالنسبة للعلماء الشناقطة مناسبة لتوثيق الصلة مع علماء الحجاز وتبادل المخطوطات والمعارف، مما رسخ هذه العلاقة الروحية والثقافية منذ قرون.
علاقات متينة بعد الاستقلال: تعاون شامل في كافة المجالات
منذ استقلال موريتانيا عام 1960، لم تتأخر المملكة العربية السعودية عن دعم شقيقتها موريتانيا، سواء في المواقف السياسية أو في مجالات التنمية المختلفة. وقد شهدت العلاقات الثنائية تطورا كبيرا شمل قطاعات حيوية، منها:
التعليم: حيث مولت المملكة عددا من المدارس والمعاهد الشرعية، وقدمت منحا دراسية للطلاب الموريتانيين في الجامعات السعودية، لا سيما في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
الصحة: ساهمت السعودية في بناء وتجهيز عدد من المستشفيات والمراكز الصحية، فضلا عن إرسال بعثات طبية سعودية إلى موريتانيا.
المياه والطاقة: مولت المملكة مشاريع حفر الآبار وتزويد المناطق الريفية بالمياه، إضافة إلى مشاريع الطاقة الشمسية التي ساعدت في تحسين ظروف المعيشة في المناطق النائية.
المعادن: دعمت السعودية مشاريع تنقيب واستثمار في قطاع المعادن، خاصة مع تنامي الاهتمام السعودي في تنويع الاستثمارات الخارجية.
الشؤون الدينية: كان للمملكة دور كبير في دعم الشؤون الإسلامية في موريتانيا، من خلال ترميم وبناء المساجد، وتوفير المصاحف، وإرسال الدعاة خلال شهر رمضان، بالإضافة إلى تنسيق كبير بين وزارتي الشؤون الإسلامية في البلدين.
العمل الإنساني: لم تتوقف يد المملكة عن العطاء في الشدائد، إذ قدمت المساعدات الإنسانية لموريتانيا خلال أزمات الجفاف والفيضانات، عبر مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، الذي له حضور فاعل في مختلف مناطق موريتانيا.
زيارات رسمية متبادلة وتعاون رفيع المستوى
شهدت العقود الماضية زيارات رسمية متبادلة على أعلى المستويات، ما يؤكد متانة العلاقات السياسية بين نواكشوط والرياض. فقد زار عدد من رؤساء موريتانيا المملكة، وكان في استقبالهم كبار المسؤولين السعوديين، كما زار مسؤولون سعوديون موريتانيا في مناسبات عديدة لتوقيع اتفاقيات وتفعيل برامج التعاون المشترك.
روابط الدين والدم والتاريخ أساس هذا التحالف الأخوي
ما يجمع موريتانيا والسعودية لا تقتصر على مصالح وقتية، بل على وحدة الدين، وتماثل المرجعية الثقافية، وتشابه النسيج الاجتماعي المبني على احترام الدين والعلم والعلماء. وتعد السعودية من أكبر الدول المانحة لموريتانيا، ليس فقط من حيث الدعم المالي، بل من حيث الدعم السياسي والإنساني والديني.
قيادة رشيدة وسفير نشيط يعكس عمق العلاقات
إن هذه العلاقات اليوم في أفضل حالاتها، بفضل التفاهم الكبير بين قيادة البلدين الشقيقين، فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، وأخيه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، وولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان آل سعود.
كما يسجل للسفير السعودي في نواكشوط، الدكتور عبد العزيز بن عبد الله الرقابي، دور بارز في ترسيخ هذه العلاقات، إذ يشهد الجميع على نشاطه الدائم، وسعيه المتواصل لتعزيز التعاون بين البلدين. وقد نال إشادة كبار الشخصيات الدينية والرسمية في موريتانيا، وفي مقدمتهم فضيلة مفتي الجمهورية الشيخ أحمدو ولد لمرابط ولد حبيب الرحمن، الذي نوه بجهود السفير في دعم الشأن الديني والثقافي.
خاتمة: علاقة تاريخية تنبض بالمستقبل
إن العلاقات السعودية الموريتانية ليست مجرد تعاون ديبلوماسي، بل قصة أخوة حقيقية تجذرت في عمق التاريخ، وامتدت عبر الزمن لتصبح نموذجا للتكامل العربي الإسلامي. واليوم، ومع تطابق الرؤى بين قيادتي البلدين، ودعم مستمر في شتى الميادين، فإن المستقبل يبدو واعدا لمزيد من التقدم والتعاون، لما فيه خير الشعبين الشقيقين والأمة الإسلامية جمعاء.
بقلم: محمد سالم المختار الشيخ
