خطبة الجمعة ليوم 2024/10/25 بمسجد الاحواش في بوتلميت:العزة والإباء في سبيل الله
( العزة والإباء في سبيل الله )
أما بعدُ:
مِنْ أَعظَم اَلْقيَم اَلْعَظِيمَة، والمبادِئ النَّبِيلة، وَالْآثَار الجَميلَة فِي دِينِنا الحَنِيف: الْأُخُوَّة فِي الدِّينِ، اَلَّتِي هِي تَشْرِيع رَبَّانِي، وَمَبْدَأ إِسْلَامِي، اِنْطِلَاقًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) أَيْ: أَصبَحْتُم بِسَبب نِعمَة الإِسلَام إِخوَانا فِي الدِّين، لِأَنَّ الْأُخُوَّةَ اَلْإِسْلَامِيَّةَ لَيسَت تَقْلِيدا أَعمَى، وَلَا عَادَة مَورُوثَة، ولَا تَكَتُّلا مُرتَبطا بِوَقتٍ أَو ظَرف طَارِئٍ، بَلْ هِيَ عَقد لَازِمٌ ، وَرِبَاطٌ بَيْنَ أَهلِ اَلتَّوْحِيدِ دَائِمٌ، لَا يَنْفَسِخُ وَلَا يَسْقُطُ بِالتَّخَلِّي، وَلَا يُنَالُ بِالتَّمَنِّيِ، يُؤَكِّدُ هَذَا قَول اَللَّه تَعَالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، وَقَوْلُهُ: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).
عباد الله: اَللِّسَانُ يَقِفُ عَاجِزًا أَمَامَ وَصْفِ اَلْأَحْدَاثِ اَلْأَلِيمَةِ اَلَّتِي نشاهدها عبر وسائل الإعلام ، وَإِنَّ اَلْقَلْبَ لِيَعْتَصِرُ أَلَمًا وَحُزْنًا عِنْدَمَا نرَى أَطْفَالاً يَبْكُونَ وَيُقَتَّلُونَ، وَشُيُوخاً يَئِنُّونَ، وَمَرْضَى يَتَوَجَّعُونَ، وجَنَائِزَ مُتَوَالِيَةً، وقَتْلَى وجَرْحَى فِي كُلِّ آنٍ وَلَحْظَة، والقضاء على عَائِلَات كَامِلَة، وَتدمير أَحيَاء عَامِرَة، وَلم يسلم الأطباء ورجال الإسعاف والصحفيون مِن القتل واَلْعُدْوَانِ والاستهداف، فَحَسْبُنَا اَللَّهُ وَنِعْمَ اَلْوَكِيلِ.
في غزوة أحد نرى رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ قد شُجَّ في جَبهتِه، وكُسِرتْ رباعيتُه، وجُرِحتْ شفتُه، ودَخلتْ حَلَقاتُ المغفر في وَجنَتِه، ونرى على الأرضِ سبعينَ من خِيرةِ صحابتِه، قَد مُثِّلَ بِهم فَقُطِّعتْ منهم الأنوفُ والآذانُ، وبُقرتْ منهم البطونُ، بينَهم سيِّدُ الشُّهداءِ حمزةُ بنُ عبدِالمطلِّبِ رَضيَ اللهُ عنه، ونرى من الرُّماةِ من تَركَ مكانَه وعَصى، ونرى من الجنودِ من تركَ أرضَ المعركةِ وتولَّى، ومن ثَبتَ من الصَّحابةِ، منهم من استُشهدَ ومنهم من جُرحَ، فكانَ يوماً على المسلمينَ عظيماً.
ولكنَّ العَجيبَ أنَّه لمَّا نزلتْ آياتُ سورةِ آلِ عِمرانَ في غزوةِ أُحدٍ، كانَ فيها: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، إنَّها رسالةٌ ربَّانيةٌ أنَّ أهلَ الإيمانِ هم الأعلى والأعزُّ حتى مع الهزيمةِ، ومع الضَّعفِ، ومع تسلُّطِ الأعداءِ، فالمؤمنُ عزيزٌ بربِّه، عزيزٌ بدينِه، عزيزٌ بثباتِه على عقيدتِه.
ألا ترونَ حال المستضعفين من المسلمينَ في مكةَ، وهم يُعذَّبونَ أشدَّ العذابِ، فهناكَ عمَّارُ بنُ ياسرٍ وأبوهُ وأمُّه، وهناكَ بلالُ بنُ رباحٍ، وهناكَ خبَّابُ بنُ الأَرَتِّ، ومع ذلكَ كانوا أعزَّةً، ثابتينَ على الحقِّ، حتى عَجزَ عنهم صناديد قُريشٍ، وأصابتهم الهَزيمة النَّفسية والذُّل بسببِ يأسِهم من صدِّهم عن دينِهم وعَقيدَتِهم، وصدَقَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ حينَ قالَ: (عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ).
عِزَّةُ المؤمنِ هيَ التي جَعلتْ خُبيبَ بنَ عدِيٍّ يقفُ شامخاً عزيزاً أمامَ كُفَّارِ قُريشٍ، يُصلي ركعتينِ قبلَ مَقتلِه، وَيَقولُ: واللهِ لَولا أَن تَظنُّوا إنَّما طَوَّلتُ جَزَعًا من القَتلِ لاستَكثَرتُ من الصَّلاةِ، ثُمَّ قالَ قبلَ أن يُصلبَ:
ولَستُ أُبالي حِينَ أُقتَلُ مُسلِماً *** على أيِّ شِقٍّ كانَ للهِ مَصرَعي
وذلك في ذاتِ الإلهِ وإنْ يَشَأْ *** يُبارِكْ على أوْصالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ.
عِزَّةُ المؤمنِ هي التي جَعلتْ أصحابَ الأخدودِ، لا يُبالونَ بنارِ الملكِ العظيمةِ التي قد ملأتِ الأخاديدَ في الطُّرقاتِ، فيُرمى بعضُهم أمامَ بعضٍ، ويُحرقُ بعضُهم أمامَ بعضٍ، وهم في ثباتٍ على الدِّينِ والإيمانِ، حتى تأتي امرأة ومعها طفلٌ صغيرٌ، فتقاعسَتْ عن الوُقوعِ فيها خوفاً على صَغيرِها، فَقالَ لَهَا الغُلَام: يا أُمَّاهْ، اصْبِرِي فإنَّكِ علَى الحَقِّ.
عِزَّةُ المؤمنِ هي التي جَعلَتْ الإمامَ أحمدَ بنَ حنبلٍ رحمَه الله يقفُ موقفَ الجبالِ الراسخات، أمامَ فِتنةِ خلقِ القرآنِ، معَ ما تَعرَّضَ لهُ من السِّجنِ والجَلدِ، حتى أصبح إماما لأهل السُّنة والجَماعة، وهي التي جعلت شيخ الإسلام ابن تيمية يَقول: (ماذا يصنع أعدائي بي، إن سعادتي في قلبي أينما ذهبت فهي معي، فسجني خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة.).
اليومَ نَرى العِزةَ في سَماءِ غَزةَ، نراها في عُيونِ ذلكَ الشيخِ الكَبيرِ، الذي يَرفعُ يَديهِ إلى السَّميعِ البَصيرِ، وَمَعَ شِدةِ البَلاءِ وطُولِ السِّنينَ، لا يَزالُ يَدعو بِقَلبٍ يَملأَهُ اليَقينُ، ونرى العِزةَ في صُمودِ أولئكَ الشَّبابِ أَمامَ الأخطَارِ والأهوالِ، في إنقَاذِهم للمُصابينَ مِن كِبارٍ ونِسَاءٍ وأَطفَالٍ، ونرى العِزةَ في مَشاعرِ تَلكَ الأمِّ التي تُودِّعُ أبناءَها شَهيداً بَعدَ شهيدٍ، بكَلِماتِ الثَّباتِ والفَرحِ والزَّغاريدِ، ولِسانُ حَالِ العِزةِ في قَلبِ كل فرد منهم: إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يرضى ربنا، وإنَّا عَلى فِراقِكم جَميعا لَمحزونون، وهَكَذا كُلَّما قَلَّبتَ عَينَكَ في غَزَّةَ، رَأيتَ مَوقِفَاً عَجيباً مِن مَواقف العِزَّة.
ولا عَجبَ في ذلكَ، فاللهُ تَعالى ربطَ العزَّةَ بوصف الإيمان، فقالَ سُبحانَه: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)، فمتى وُجِدَ الإيمانُ، وُجِدَتْ العِزَّةُ، فَالعِزَّةُ ثَباتٌ في أَحلَكِ الأوقاتِ، حتى مَعَ الآلامِ والضَّعفِ، ومَعَ الجِراحِ والقَصفِ، فمنْ عَاشَ عَاشَ حَميداً، ومن مَاتَ مَاتَ شهيداً، فَصبراً يا أهلَ غَزَّةَ عَلى البَلاءِ.
إن دماءكم الزكية التي تسقط إنما تروي أرضا ستنبت الآلاف من طلاب الشهادة، والحقيقة التي ما زال الأعداء يغمضون أعينهم عنها أنهم يواجهون جماعة يعشق أفرادُها الشهادةَ في سبيل الله. فكيف يرهب الموتَ من كان شعاره الذي يهتف به صباحا ومساء: «الموت في سبيل الله أسمى أمانينا».
نقولها بكل ثقة سينتصر أصحاب الحق ولو بعد حين ولو كان الثمن آلاف الشهداء «والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون».
الخطبة الثانية: أما بعد،
عباد الله: يَتَسَاءَل المُسلِم الغَيُور: وَمَاذَا في أَيدِينَا؟ مَاذَا عَسَانَا نَملِكُ نُصرَةً لإِخوَانِنَا؟ فَنَقُولُ: إِنَّ في أَيدِينَا مَا لا يَسَعُ مُسلِمًا تَركه ولا التَّقصِير فيه، بِأَيدِينَا السِّلاح المَاضِي، وَالقُوَّة القَاهِرَة، بِأَيدِينا سِلاح الدُّعَاء، وَاللهُ سبحانه هُوَ الَّذِي وَعَدَنَا بِالإِجَابَةِ فَقَالَ: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعُوني أَستَجِبْ لَكُم)، فمَنِ الَّذِي يَمنَعُكَ أَنْ تَرفَعَ كَفَّكَ إِلى اللهِ -تَعالى- ضَارِعًا مُتَوسِّلاً؟.
نستطيع -كَذَلِكَ- أن نقوم عبر وسائلنا بإبراز الحقيقة لأبنائنا ومن حولنا وللآخرين، بِأَيدِينَا قُلُوبُهُم، فَلْنَغرِس فِيهَا العَقِيدَة الصَّحِيحَة، لِنَغرِس في قُلُوبِهِم الوَلاءَ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤمِنِينَ أَينَمَا كَانُوا، وَالبَرَاءَ مِنَ الشِّركِ وَالمُشرِكِينَ أَينَمَا كَانُوا،لنطلعهم على حقيقة ما يهدف إليه أعداء الإسلام والمسلمين، ولنُحَذِّرْهُم ممَّن يُهَوِّنُونَ مِن شَأنِ هَذا الدين، وَيَدْعُونَ كَذِبَاً وَوَهْمَاً وَزُورَاً إِلى مَا يُسَمُّونَهُ بالتَّعَايُشِ السّلمِيّ، الَّذِي حَقِيقَتُهُ خُضُوع وَخُنُوع، وإذْلال وَمَهَانَة: (قَد كَانَت لَكُم إسوَة حَسَنَةٌ في إِبرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَومِهِم إِنَّا بُرَآءُ مِنكُم وَمِمَّا تَعبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَينَنَا وَبَينَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤمِنُوا بِاللهِ وَحدَهُ).
وجزى اللهُ خَيراً بِلادَنا حكومة وشعبا على مَوقفِهم الثَّابتِ تجاهَ القَضية الفِلسطينية، ومَا يَقومونَ بِهِ من تحركات جَادَّة، وهبات حقيقية لا تغيرها الظروف، ولا تحولها المصالح.
وَلْيَحذَرِ المُسلِمُ مِن خِذلانِ إِخوَانِهِ بِأَيِّ نَوعٍ مِن أَنوَاعِ الخِذلانِ، فَقَدْ قَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: “مَا مِنِ امرِئٍ يَخْذُلُ امرَأً مُسلِمًا في مَوطِنٍ يُنتَقَصُ فِيهِ مِن عِرضِهِ وَيُنتَهَكُ فِيهِ مِن حُرمَتِهِ إِلاَّ خَذَلَهُ اللهُ -تَعَالى- في مَوطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصرَتَهُ” رواه الإمام أحمد وأبو داوود، وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-: “المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ، لا يَظلِمُهُ وَلا يُسلِمُهُ وَلا يَخذُلُهُ وَلا يَحقِرُهُ ” متفق عليه. وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: “المُؤمِنُ لِلمُؤمِنِ كَالبُنيَانِ يَشُدُّ بَعضُهُ بَعضًا) متفق عليه”.
أَلا فَلْنَهبَّ لِنُصرَةِ إِخوَانِنَا مَا استَطَعْنا، فَأخْلِصُوا في الدُّعاءِ لهم، فالدعاء نعمة عظيمة، وَمِنَّة عميمة، امتن الله تعالى به على عباده، حيث أمرهم بالدعاء، ووعدهم بالإجابة والإثابة، فما استُجلبت النعمُ بمثله، ولا استُدفعت النقمُ بمثله، وهو مفزع المظلومين، وملاذ المضطرين.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله:
أَتَهْزَأُ بِالدُّعَاءِ وَتَزْدَرِيهِ *** وَمَا تَدْرِي بِمَا صَنَعَ الدُّعَاءُ
سِهَامُ اللَّيْلِ لَا تُخْطِي وَلَكِنْ *** لَهَا أَمَدٌ وَلِلأَمَدِ انْقِضَاءُ.
إسحاق بن موسى بن الشيخ سيدي